الشعر

القسم الأول: الشعــــــــــر

الاتجاهات العامة:

عوامل ومؤثرات واتجاهات التجديد العامة: بيئة الرقة والمجون – الاهتمام بالذات – الاتجاه الشعبي – الاتجاه الترفيهي

1- منذ العهد الأموي تركزت الحياة الأدبية في العراق. فقد كانت الكوفة مهد المتطرفين من الشيعة وغيرهم.. كما ضمَّت حلقة الـمُجَّان ( مطيع بن إياس وحماد عجرد..) وكانوا ندماء الوليد بن يزيد الخليفة المتهتك، وظلوا معه حتى قتل، وكلهم شعراء أغرقوا في الخلاعة وشعر المجون، معهم يذكر: والبة بن الحباب ويحيى بن زياد وأحيانا أبو العتاهية، وكذلك أبان بن عبد الحميد اللاحقي... مبتعدين في كثير من الأحيان عن الصياغات الشعرية القديمة ومتأثرين بموجة الغناء. وبعضهم تربى وتتلمذ عليه أبو نواس .....

وكان لهذه البيئة أثر خطير في توجيه الشعر العباسي من البيئة العربية القديمة التي رافقته ورافقت صوره وعبارته إلى بيئة جديدة، صورت حياة الحواضر وما فيها من رقي وترف وقصور ورياض... ومن هنا سجّل النقد نقاشا حول معنى الإتباع والمحافظة على الموروث فكان النزاع بين القدماء والمحدثين (المحافظين والمجددين)، خاصة حول مجموعة من القضايا كبنية القصيدة ومراحلها من طلل و... وحول مستوى العبارة واللغة نفسها، بل وحول القيم الفنية المتوارثة في بنية المعنى والأغراض الشعرية...فقد ضعفت الصلة بين الشاعر المحدث الذي نشأ في بيئة جديدة مغايرة وبين البيئة العربية القديمة التي بدأت تختفي وتنحصر في الموروث فقط. فكان مطيع بن إياس مثلا من أوائل من عبروا عن هذا الانقطاع بين البيئتين:

لأَحْـسنُ من بِيـدٍ يَـحارُ بهـا القَـطَا ومن جَبَـليْ طيّ ووصفِكُمـا سَــلعا

تلاحُـظُ عيْـنيْ عاشقَين كلاهمـــا لـه مُقـلة في وجـه صاحبه تـرعى

وقد أكثـر أبو نواس من التهجم على البداية الطللية ودعوته إلى تركها، وكثير من الشعراء استبدلوها بمقدمات أخرى، رغم استمرارها في قصائد كثير من الشعراء المحافظين.

إن الإقبال على هذه البيئة الجديدة أضعف الصلة بالموروث من صور البيئة القديمة وفتح الباب أما تمرد الشعراء المحدثين على نهجها العام (عمود الشعر)..

2- تظهر نزعة الاهتمام بالذات قوية في شعر العباسيين، وهي تقابل تماما ما نلقاه من تغني القدماء بالقبيلة على حساب الفرد. ومن هنا نقرأ قصائد كثيرة في وصف الشعراء لأحاسيسهم وآمالهم وظروفهم حتى ضمن قصائد المديح نفسها. قال صالح بن عبد القدوس يرثي عينه:

عـزاءكِ أيها العيـن السَّــكوب ودمعك إنها نُــوَبٌ تـنــوب

وكنتِ كريـمَتي وسراجَ وجهـي وكانت لي بـكِ الدنيا تطيــب

فإن أكُ قد ثكِـلتُــك في حياتي وفارقنـي بكِ الإلــفُ الحبيب

فكلُّ قَـرينَـة لا بــدَّ يـوما سيشعَـب إلفُها عنها شَــعوب

على الدنيا السلام فما لشيــخ ضريرِ العَــين في الدنيا نصيب

يموتُ المرء وهـو يُـعَـدّ حيا ويخلفُ ظـنَّـه الأمل الكـذوب

يـمنّـيني الطبيب شفـاءَ عيني وما غيرُ الإلـه لها طبيــــب

إذا ما مات بعضُـك فابكِ بعضا فإن البعضَ من بعـــضٍ قريب

ومثله بكى أبو يعقوب الخريمي وأبو الشيص الخزاعي أبصارهما. وبدأت تظهر مشكلة الفقر في الشعر، كما نقرأه لأبي فرعون الساسي..أو أشعار أنشدها شعراء سجناء (صالح بن عبد القدوس..) أو الحديث عن الفقر أو عن اللون الأسود والتأثر بضعة المكانة الاجتماعية...

فهذا المنزع يقف في مقابل ضغط القبيلة والروح الجماعية التي كبّلت الشعر القديم، وهو وثيق الارتباط في نفس الوقت بروح التمرد لدى الشاعر العباسي الذي يرغب في استكناه أعماقه والبوح بدخائله الذاتية؛ ولهذا تحولت الموضوعات المرتبطة بحالته النفسية والاجتماعية إلى أغراض يهتم بها ويقبل عليها، وسترتبط بالتوجهات الفلسفية بصفة خاصة حيث يمتزج صراعه الداخلي بموقفه الفلسفي.......

...... وقد يدخل في هذا الاتجاه الاهتمام بالطبيعة ومظاهرها؛ ولا ريب أن هذا المنزع يترجم تأثرهم بالبيئة الجديدة التي تناقض البيئة الصحراوية القديمة التي صورها شعراء الجاهلية والإسلام الأوائل، فكأن معها هو رد آخر على توجه البداوة، وتأكيد على معنى التحضر والتمدن وقيمه. ولهذا السبب ألحوا على وصف الدور والقصور والبرك والرياض وما إليها.

3- إن الاتجاه الشعبي في شعر العباسيين بارز جدا، يتقاطع مع ما يشبهه في النثر. ربما يكون للتمازج بين عناصر المجتمع وتقارب طبقاته، ولتنامي دور العامة في حياة الدولة، وكذلك انتشار الأغاني والأغاني الشعبية خاصة، ورغبة الشعراء في الانتشار الأوسع لأدبهم، أثرا كبيرا في بلورة هذا الاتجاه. وقد نستطيع التمييز بين أدب رسمي يعيش في البلاطات وبين أدب آخر أخذ يتكون في الأوساط الشعبية وشعرائها وأدبائها. وإن قصة بشار مع خادمته ربابة وقوله:

ربابة ربــة البيت تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت

تشرح هذا التوجه، فقد أجاب حين لاموه في هذا الشعر: " إنه أحب إليها من قفا نبك"؛ أي أقرب إليها وأنسب مع اهتماماتها وإدراكها. وهذا التوجه هو ميزة من ميزات الصياغة الشعرية العباسية التي فرضتها بيئته وظروفه. وامتدت إضافة إلى الأغراض إلى العبارة والمعاني والصور، فبيئة المجون والغناء والسمر لا تتقبل الصياغات الرفيعة، بل تستثقلها، وتتطلب صياغات بسيطة شعبية، بل وعامية. مثل قول بشار:

لا تلعبي بحياتي واقطعـــي أملي صبرا على الموت إن الموت مورود

أنت الأميرة في روحي وفي جسدي فَـابْـرِي ورِيِـشي بكفيكِ الأقاليـد

أو قوله: لقد كنتِ على العينيــــــن والرأس فنُـحّــيـت

4- والتوجهات السابقة مرتبطة بتوجه آخر يلاحظ في أكثر ا الشعر وما بعده، وهو الاتجاه الترفيهي. فقد تم تحويل الشعر من الاكتفاء بالمواقف الرسمية والأدبية الموروثة (الكلاسية) إلى التسلية والترفيه. فالدكتور عبد الحميد يونس يلاحظ أن الخمريات والغزل بالمذكر تتضمن عنصر التسلية والترفيه. فكان الشعر يسجل كثيرا من الأحداث أو الوضعيات البسيطة لمجرد ارتباطها بالنكتة و التسلية. كما نقرأه في قصيدة بشار على لسان حماره بعد موته، قال إنه رآه في المنام، فسأله لماذا مات رغم إحسانه إليه فقال:

سيدي خُـذ بي أتــانا عند باب الأصفهــاني

تيمتــني يوم رحنــا بثنــاياها الحسـان

وبغُـنْــــج ودلال سَــلّ جسمي وبَراني

ولها خـدّ أسِـــيل مثلَ خد الشَّـيـفَـران

فلذا مـت ولو عـشت إذن كان هـــواني

ونقرأ عددا كبيرا من قصائد أبي العبر من أبرز الحمقى والمتماجنين، وأبي دلامة في زوجته، وقصائد الحمدوني في طيلسان ابن حرب...

شكرا على المرور الكريم