مقالة حول الحرية بين الشعور والممارسة.
الأسئلة:-هل الحرية حالة شعورية أم عمل للتحرّر؟-هل الوعي يثبت الحرية؟-هل الحرية مسألة نظرية أم عملية؟-هل تكفي المعرفة وحدها لإثبات الحرية؟-هل الحرية معطى أوليI- المقدمة :يميل الإنسان للحركة التي تتجلى في سلسلة من الأفعال والتي تختلف بحسب مصدرها وغايتها, فهناك أفعال غريزية تهدف إلى تلبية مطالب بيولوجية, وهناك منعكسات شرطية آلية من صيغة (منبه واستجابة)وبينما تظهر الأفعال الإرادية التي تتصف بالتفكير والممارسة والتي منها يظهر موضوع الحرية بكل ما يحمله من إشكالات. غير أنّ [الحرية بين الشعور والممارسة] مسألة جدلية شائكة بهدف إبراز المفهوم الحقيقي للحرية ويمكن صياغة ذلك في الإشكالية التالية :هل الحرية حالة شعورية أم عمل للتحرر؟/الرأي الأول (الأطروحة):ترى هذه الأطروحة أنّ "الحرية حالة شعورية" وهي مسألة نظرية تدرك بالحدس النفسي بل هي معطى أولي, وفي نظرهم أن الحرية تجربة داخلية يشعر بها الإنسان قبل الفعل وبعده فـالندم مثلاً وهو ظاهرة نفسية يدلّ على أنّ الإنسان يُحمّل نفسه مسؤولية أفعاله لأنّه إختارها بمحض إرادته وبحريّة كاملة, وتعود هذه الأطروحة بجذورها التاريخية إلى "المعتزلة" الذين شاع عنهم هذا القول {الإنسان يحسّ من تلقاء نفسه وقوع الفعل فإذا أراد الحركة تحرّك وإذا أراد السكون سكن}, وفي العصر الحديث دافع "ديكارت" عن ارتباط الحرية بالشعور حيث دخل في تجربة الشكّ (شك في وجود نفسه والعالم واللَّه) ولمّا لاحظ أنّ الشكّ حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها توصَل إلى القاعدة القائلة {أنا أفكّر, أنا موجود} هذه التجربة النفسية هي في نظره علامة على وجود الحرية فقال {إنّ تجارب وجداني تشهد بأنّ لي إرادة وحرية لا تحصرها ولا تحبسها حدود}, وربط "برغسون" بين الحرية والوعي حيث قسّم الأنا إلى قسمين: [الأنا السطحي] حيث يخضع الفرد إلى سلطة العادات والتقاليد فهو مقيَّد حتى اللغة التي يستعملها تُفرض عليه من الوسط الخارجي أمّا [الأنا العميق] ففيه تتجلى الحرية والتجربة النفسية تثبت ذلك لأنّه لا توجد حدود أو ضوابط تقف أمام الأفكار, وأشهر فلاسفة الحرية في العصر الحديث الفرنسي "جون بول سارتر" صاحب مذهب "الوجودية" وصاحب فكرة {الوجود أبق من الماهية} وفي اعتقاده أن حياة الإنسان عبارة عن مشروع يجب إنجازه في ظل الحرية والمسؤولية والدليل على وجود الحرية تجربة أطلق عليها إعدام الأشياء أي القدرة على الرفض فقال {ليست حرّيتي خاصية مضافة إلى وجودي بل هي نسيج وجودي نفسه} وملخص هذه الأطروحة يظهر في عبارة "آلان" {الحرية معطى مباشر للشعور}.نقد: إن الشعور وحده لا يكفي لإثبات الحرية بل قد يكون مصدرا للوهم والخداع.الرأي الثاني (نقيض الأطروحة) : ترى هذه الأطروحة أنّ الحرية الحقيقية لا ترتبط بالشعور بل بالممارسة فهي "عمل للتحرر"والحرية من حيث المفهوم {تجاوز كلّ إكراه (حتمية) داخلي أو خارجي مع وعي الأسباب الدافعة إلى ذلك}, والحرية لا يمكن أن ترتبط بالشعور لأنّه مصدر للخداع ولأنه يرسم لنا الفعل ويحجب عنّا الأسباب والدوافع الحقيقية قال "سبينوزا" {يظنّ الناس أنهم أحرار لأنهم يدركون رغباتهم ومشيئاتهم ولكن يجهلون الأسباب التي تسوقهم إلى أن يرغبوا ويشتهوا} ويرى المفكّر "ايمانويل كانط " أن عدم الاعتراف بالحتميات المختلفة مخادعة من مخادعات الشعور وترى هذه الأطروحة أن الحرية تبدأ عندما يفهم الإنسان فهمًا علميًّا وفلسفيًّا الحتميات المختلفة (نفسية, اجتماعية, فيزيائية) ثم العمل على تجاوزها والانتصار عليها, فعلى المستوى الاجتماعي تسلب العادات البالية والخرافات حرية الإنسان وهنا تساعد نظريات علماء الاجتماع والفلاسفة في رسم خطة عمل لترقية حرية الإنسان كما حدث في عصر النهضة من خلال فلسفة التنوير والتي تجلّت بشكل واضح في "الثورة الفرنسية" (1789), وعلى المستوى النفسي تتجلى الحتمية النفسية في تأثير العقد والمكبوتات كما ذهب إلى ذلك "فرويد" أو الشعور بالنقص (الدونية) كما أكّد على ذلك "آدلر" والسبيل الوحيد للتحرر منها هو الاستعانة بفكرة التحليل النفسي حيث يسترجع الوعي سيطرته ومكانته, وكما قال "سبينوزا" {كلّما ازداد الإنسان علمًا ازداد قدرة على توجيه سلوكه ومن ثمَّ تحرير نفسه}, وعلى المستوى الفيزيائي تحرير الإنسان يتمّ عبر اكتشاف القوانين العلمية فقانون الجاذبية مثلاً ساعد الإنسان على صناعة الطائرة ومن ثمَّ الطيران بحريّة, وملخّص الأطروحة أنّ العمل والعلم أساس التحرر.نقد: إنّ هذه الأطروحة نسبية لأنّها ترسم حدودا للتحرر الذي إذا تجاوز حدود العقل أو الدين انقلب إلى فوضى./التركيب : الحرية بين الشعور والممارسة تقتضي رؤية نقدية فالشعور مسلّمة ضرورية لحدوث عملية التحرر لأن الشعور هو الوعي ولا يمكن القيام بأي عمل في غياب الوعي وما قال "أبو حامد الغزالي" {علم بلا عمل لا يصحّ وعمل بلا علم جنون} والحقيقة أن الحرية لا تتحقق إلا عندما ينتقل الإنسان من [مستوى الشعور إلى مستوى الممارسة]فتنقلب الحرية إلى تحرر وينال الإنسان الحرية التي يستحقها وعلى حدّ تعبير "غسدروف" {ينال المرء دائمًا الحرية التي هو أهل لها والتي هو قادر عليها}.- الخاتمة : ومجمل القول ....أن الحرية مسألة فلسفية قديمة عرفت عبر تاريخها الطويل طرحين: طرح كلاسيكي (ميتافيزيقي) حول إثبات ونفي الحرية وطرح واقعي انقلبت فيه الحرية إلى تحرّر وفي مقالنا هذا عالجنا إشكالية[الحرية بين الشعور والممارسة] حيث أرجعها البعض إلى التجربة النفسية الداخلية وهم أنصار (الحرية شعور) والبعض الآخر نظر إليها من زاوية الممارسة والانتصار على الحتميات المختلفة, ومما سبق تحليله نستنتج :الحرية تنطلق من الشعور وتتجلى في الممارسة.