لغة الصحافة
أولا: لغة الصحافة هي لغة عملية
من خلال الرؤية المتفحصة إلى ما آلت إليه الكتابات الصحافية العربية اليوم, بعد أن تأثرت مباشرة وغير مباشرة بلغات الصحافة في العالم أساليبها ونظرياتها, يمكن التأكيد أن لغة الصحافة ليست أدبية, وإن كانت فيها بعض المجالات المتخصصة أدبيا, حيث يبقى فيها الأسلوب الأدبي مكانة وفعلا. لقد ولى زمان المباهاة بالقدرة البلاغية التي نجد صورة عنها في افتتاحية جريدة "الوقائع" المصرية في أول عدد لها الصادر عام 1828 ومطلعها:
"الحمد لله باري الأمم والسلام على سيد العرب والعجم, أما بعد, فإن تحرير الأمور الواقعة في اجتماع بني آدم, متدبجين في صحيفة هذا العالم, ومن إئتلافهم وحركاتهم وسكونهم ومعاملاتهم ومعاشرتهم التي حصلت من احتياج بعض بعضا, هي نتيجة الإنتباه والتبصر والتدبير والإتقان وإظهار الغيرة العمومية, وسبب فعال منه يطلعون على كيفية الحال والزمان".
وولى زمان الكتابة الجبرانية(جبران خليل جبران) التي نقدم نموذجا عن مقالة منها نشرت في مجلة "الفنون" المصرية ونقلتها عنها مجلة "الهلال" عام 1917:
"ماذا عسى يقدر المنفي البعيد أن يفعل لأهل الجائعين؟
ليت شعري, ماذا ينفع ندب الشاعر ونواحه
لو كنت سنبلة من القمح نابتة في تربة بلادي لكان الطفل الجائع يلتقطني ويزيل بحياتي يد الموت عن نفسه.
لو كنت ثمرة يانعة في بساتين بلادي لكانت المرأة الجائعة تناولني وتقضمني طعاما.
لو كنت طائرا في فضاء بلادي لكان الرجل الجائع يصطادني ويزيل بجسدي ظل القبر عن جسده.
ولكن, وأحر قلباه, لست بسنبلة من القمح في سهول سوريا ولا بثمرة يانعة في أودية لبنان. وهذه نكبتي؟؟".
ولغة الصحافة ليست علمية بحتة, وإن أفادت من موضوعية اللغة العلمية وبعض أساليبها أو كانت هناك بعض المجالات المتخصصة علميا. إنها اللغة العملية. نعني بها التي يتداول الناس مفرداتها وتراكيبها وأساليبها في ندواتهم واجتماعاتهم وحياتهم اليومية وقد صيغت في قالب فصيح.
وفي دراسة أجراها معهد العلوم الإحصائية في هولندا تبين أن 68 في المائة من المفردات والتراكيب التي يتلفظ بها السياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون والتربويون في اجتماعاتهم أصبحت جزءا من لغة الناس اليومية وإن خالطها بعض التحريف, كما تبين أن جمهور العامة من أصحاب الحرف الصغيرة والعمال وصغار الموظفين والأجراء المداومين يتعاملون في مناقشاتهم وحواراتهم العادية بـ56 في المائة من هذه المفردات والتراكيب دون أن يفقدوها معانيها العامة.
ويبدو أن هذه المفردات والتراكيب خرجت من نطاقاتها المحدودة والمغلقة إلى الآخرين عن طريق وسائل الإعلام فأصبح هناك تعميم وتوزيع.
ثانيا: المرسلة الصحافية تسمح بالتحكم في الوقت والمضمون.
إن القارئ أمام الصحيفة سيد الموقف, فهو قادر على تحديد وقت القراءة ومدتها, ولديه الفرصة الكافية لإعادة قراءة المرسلة الإعلامية خبرا كان أو مقالا أم ريبورتاجا أم يوميات... والتوقف عند مقاطع معينة أو جمل معينة أو مفردات معينة وصولا إلى فهم ما يمكن أن يكون قد فاته فهمه في أثناء القراءة السريعة أو القراءة الأولى. وهذا كله له فعله وتأثيره في كاتب المرسلة وفي القارئ على حد سواء.
فالأول(أي الكاتب) أصبح مدركا أنه قادر على التأني في صياغة مادته، وعلى تحاشي التكرار والإطناب ـ إذا أراد ذلك ـ والاعتماد على فطنة القارئ وقدرته على الربط والتحليل.
والثاني(أي القاريء) صار متيقنا أن المرسلة(=كل مادة إعلامية هي مرسلة) هي ملك له ولا ضرورة للتسرع في استقبال ما يقرأه.
وقد توقف الدكتور عبد العزيز شرف أمام هذه الظاهرة فقال [1] : "الكلمة الصحافية هي الوسيلة الخالية من الصوت البشري, وبخلوها منه تفقد العنصر الذي تستمد منه اللغة الإذاعية والمرئية دفعا وتأثيرا. على أن في هذا الضعف قوة, فالكلمة الصحافية هي الأداة التي تمكن الجمهور من التحكم في الوقت وعدم الخضوع لسرعة الصوت بحيث يستطيع أن يسبق الكلمات أو يتوقف عند بعضها متذوقا, ويستطيع أن يرتد إلى الوراء وأن يسقط بعضها أيضا".
الواقع أن كون المرسلة الصحافية مكتوبة, لا يخالطها صوت ولا صورة متحركة ناطقة, يدفع القارئ إلى أن يكون مشاركا إيجابيا في عملية الإتصال الإعلامية. إنه لا يكتفي بالتلقي السريع المفروض بل يفكر ويتخيل ـ إذا أراد ذلك ـ فيتمتع بلذة الإكتشاف والموازنة وتصور المواقف والأحداث والتعمق.
ثالثا: اللغة الصحافية ليست كلاما فقط
صحيح أن لغة الصحافة تعتمد على الكلمة كأساس لتأسيس الكتابة, ولكن هناك عناصر أخرى مساعدة تعين على تأمين الوضوح والإفهام, منها هندسة العناوين والصفحة والصورة الثابتة, والرسوم البيانية, والجداول الإحصائية والرسوم الكاريكاتورية